إنني أخط معك منذ بداية هذا الكتاب "خطة عمل" جمالية، وأخلاقية، لا نبتكر فيها "نموذجًا قياسيًّا" للقيم، لكن "منطلقًا" واضحًا للتفكير، دون أن أفرض عليك، أو أن تفرض عليَّ رأيًا، أو سؤالًا في غير مناسبة، أو طريقة غير ممكنة، أو غير ملهمة، أو قيمة لا تنبع من النصوص المختارة التي بين أيدينا! 

​المؤلف

   تُعد إحدى المتع الجمالية في هذا النقاش، (والتي أحاول أن أعزّز ثقة القارئ، بقدرته على اكتشافها)، أنه لا شيء تقريبًا متوقع، في نقاشنا، من كل ناحية، وأن كل تأويل فني يقوم القارئ به معي، أو ربما يسبقني إليه بخطوةٍ، قد ينتهي بنا، في أحيانٍ كثيرة إلى نتائج مدهشة، وتفاصيل دقيقة، ربما لم تخطر قط ببالي، وربما لم تخطر كذلك بباله!   

​المؤلف

3 - 1  تهيئة العقل، بطرح السؤال قبل توليد الاحتمال الأولي:

(نموذج تطبيقي من سورة طه):

بعدما رأى فرعون الآيات، واتهم موسى عليه السلام بأنه ساحر: (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى)، وقال له متحديًّا: ﴿فَلَنَأۡتِيَنَّكَ بِسِحۡرٖ مِّثۡلِهِۦ فَٱجۡعَلۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكَ مَوۡعِدٗا لَّا نُخۡلِفُهُۥ نَحۡنُ وَلَآ أَنتَ مَكَانٗا سُوٗى٥٨﴾- هل كان فرعون يتحدَّى موسى بالفعل؟

أجاب معظم من شاركوا في التجربة عن السؤال بأن فرعون كان يتحدَّى موسى عليه السلام بالفعل. وواضحٌ تمامًا من ظاهر السياق أنه كان يتحدَّاه، أو أن هذا هو بالفعل ما حدث، وهي إجابة صحيحة بكل تأكيد، والأحداث تثبت ذلك، والغرابة في طرح السؤال ليست بحد ذاتها مقصدًا، غير أن عقولنا في عملية توليد الاحتمالات الممكنة ينبغي لها أن تدرك الدور المنوط بها حال التدبر والمتمثل في طرح المزيد والمزيد من الأسئلة الكاشفة:

لماذا انتقل فرعون بعد محاولات "إقفال المناظرة" مع موسى عليه الصلاة والسلام، بإدخالها إلى طريق مسدود، حين قال: (لئن اتخذت إلاهًا غيري لأجعلنك من المسجونين)، بما يحمله اسم المفعول المعرف بـ "ال" بعد حرف الجر: "من المسجونين"؛ من دلالة على صفة "التأبيد"، إلى مجازفة التحدِّي قائلًا: (فلنأتينك بسحر مثله)؟

ألم يكن بمقدور فرعون أن ينفذ وعيده بأن يتخلص من موسى عليه السلام، بسجنه، أو بأن يأمر الجنود بقتله، ويستريح؟

ولماذا قال فرعون لموسى عليه السلام: (فلنأتينك بسحر مثله)، ولم يقل له: فلنأتينك بسحر أعظم منه؟ وليتناسب هذا على الأقل مع شخصية فرعون المضادة العاتية، بكل ما فيها من غرور، واستعلاء، واستكبار ونرجسية سلطوية متغطرسة؟

أي لماذا انحسر فرعون هنا عن المبالغة في التحدي، واكتفى رغمًا عنه بمجرد المماثلة؟!

تساعد مثل هذه الأسئلة البسيطة على جذب اهتمامك، وإشعارك بأنَّ ثمة عمقًا حقيقيًّا في التفاصيل، وأنه ثمة كشف محتمل من ورائها، وأن الأمر يستحق إمعانك النظر في الآيات، وأن محاولة الإجابة ليست هدرًا لوقتك، وهو ما يمنحك ويمنح القارئ هدفًا حقيقيًّا، ويغريك حتمًا بالمشاركة في التجربة!

لذا سأشرع الآن معك في "طرح احتمال" آخر غريب، أو "غير متوقع"، ما دام بالإمكان "نسج خيوطه Yarning" جيدًا، من خلال الالتزام الواعي بالمعطيات المتاحة في "لغة النص"، مراعين أصول الفن: "الأصالة المنهجية" في الطرح، و"التجرد من الأحكام المسبقة: الموضوعية" في التفكير؛ ولتستكمل حينئذ دورك أنت في عملية "القياس"، والمقارنة: (مقارنة ما كان لديك سابقًا من معرفة، بما صار لديك منها بعد هذه المناقشة)، وبذلك تصبح القيم الخمس لـ "متلازمة بايفم": (الاحتمالية والنسج والأصالة والموضوعية والقياس) في ذهنك ماثلة!

3 - 2 بيئة الاحتمال:

لكل احتمال بيئته السردية الحاضنه، الاحتمال لا يتشكل فجأة، بلا مقدمات صحيحة، لكنه قد يوجد دون أن تراه، وقد تكتشفه في لغة النص، بسبب بعض المعطيات التي جعلتك تنتبه إليه فجأة.

بالنسبة إليك الآن، فقد صرت أكثر تركيزًا، وأكثر اهتمامًا، إذ دفعت هذه الأسئلة الكاشفةبعقلك، كما دفعت بعقول معظم المشاركين قبلك إلى معايشة المشهد، (لا سيما اللحظة السردية الخطيرة التي احتدم فيها الصراع بين موسى وفرعون، وضغطت فيها الأحداث على أعصاب فرعون بشدة، حين أن دفع الحوار به بلا هوادة إلى تحوله الخطير للوقوع رغمًا عنه في مثل هذا التحدي: (فلنأتينك بسحر مثله)، وهو الذي يملك القرار في القصر بأن يأمر الجنود إمَّا بسجنه (كما هدده منذ قليل)، وإمَّا بقتله، فما السلطان الذي تسلط على فرعون، ومنعه من تنفيذ تهديده وجعله عاجزًا؟)

على الجانب الآخر، تكشف لنا الآيات عن ثبات موسى المذهل، وقد كان عليه السلام حكيمًا شديد البراعة، في كل لمحاته، وفي كل قوله وفعله، ومثال واحد على ذلك، أنه لم يبدأ بدعوة فرعون إلى الإيمان بإظهار ما معه من آيات؛ لأن دعوة الحق إنما تُبنى أولًا بالحجة، فلما أن وصلت المناظرة بينهما إلى طريق مسدود؛ وكان فرعون مراوغًا، (لكنه كان ضعيفًا، ولم يكن أحسن شيء في مناظرته، على عكس ما يبدو)، لذلك حين حاصره موسى بردوده القوية الواضحة؛ لجأ فرعون إلى التهكم: (ألا تسمعون... إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون..)، ثم ما لبث أن رجع إلى ما يحسنه، وهو أسلوب التهديد: (لئن اتخذت إلاهًا غيري لأجلعلنك من المسجونين)، وهنا علم موسى، وفرعون، والملأ أن هذه هي لحظة النهاية، وأن فرعون لا يملك خطة حقيقية، بما يعني أنه إما أن يُقفل الصراع لصالح الغطرسة والقوة، وإما أن يدفع به من جديد إلى منطقة أخرى؛ لهذا قال له موسى حينئذ، بلغة شديدة الوضوح: (أولو جئتك بشيء مبين)، بصدارة "أولو جئتك" التي تشي بوجود خيارات أخرى، قد تجعله يتشوف دون أن يتخوف مما قد يأتي به، ثم بتنكير كلمة "شيء"؛ كي يهون على فرعون قبوله، ولهذا لم يبالغ موسى في وصف هذا "الشيء"، كأن يقول: "بشيء عظيم"؛ وليمنح فرعون إحساسًا لحظيًّا بأن الأمر أوشك أن ينتهى لصالحه، وكيلا يتعاظم فرعون، أو يتخوف من هذا الشيء، أو يحتاط منه أكثر ويعلن رفضه لأي كلام آخر بعد تهديده؛ ولهذا جاء رد فرعون بقبول ما عرضه موسى عليه؛ ليستكمل من وجهة نظره ما بقي من لحظة الحسم المرتقبة لصالحه: (فأت به إن كنت من الصادقين)، وكأن فرعون قد استحق في الظاهر نصرًا، وهو ما تلقفه من موسى سريعًا بلا تردد، كالحبل الذي جعل يلفه بيديه بإحكام تام، حول عنقه.

3 - 3 توليد الاحتمال:

بعد أن جرى تحضير عقل القارئ جيدًا لمعايشة المشهد، وجرى التركيز جيدًا على البيئة السردية الحاضنة للاحتمال الذي سيصبح الآن طرحه ممكنًا، لا سيما وأن لغة السرد نفسها هي ما تسمح بذلك أصلًا، وتلك إحدى المتع الجمالية التي يمكننا التدرب عليها، في إطار قوله تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثًا يفترى)، يحتاج القارئ كلما أمكن إلى الدفع بعقله نحو التركيز على الاحتمالية المطروحة مرة أخرى؛ لنضمن استمرار مشاركته بفعالية أكبر، وكأننا نشد خيوط النسيج في النقاش، كلما بدا أنه يتوسع، والسؤال هو: هل كان فرعون يتحدَّى موسى بالفعل؟ حينما قال له:﴿فَلَنَأۡتِيَنَّكَ بِسِحۡرٖ مِّثۡلِهِۦ فَٱجۡعَلۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكَ مَوۡعِدٗا لَّا نُخۡلِفُهُۥ نَحۡنُ وَلَآ أَنتَ مَكَانٗا سُوٗى﴾؟

أم أنه ربما كان يوعز إليه بالهرب، (في الوقت نفسه)؟

وإلا فلماذا لم يأمر الجنود فورًا بسجن موسى عليه السلام أو حتى قتله؟

وبذلك تكشف لنا الآيات، ليس فقط عما قاله فرعون لموسى، على سبيل التحدي بل تكشف لنا عما كان يفكر فيه، وعما كان يشعر به، وهو شيء مذهل، يجعل الاحتمالية المطروحة غير مناقضة للدفع بالحبكة إلى الأمام، ويجعل متعة المشاهدة متعة أكبر!

3 - 4 تقوية الاحتمال:

سنعمد الآن إلى تطبيق باقي مراحل "متلازمة" بايفم الخمسة، (وهي على الترتيب: طرح الاحتمالية، ثم غزل لقطة سردية متماسكة من خيوط المعطيات المتاحة في لغة النص على نحو مما سبق، مع مراعاة الأصالة في الطرح، والموضوعية، ختامًا بمرحلة القياس): فنحن بنظرة فاحصة في بناء الشرائح اللغوية التي جاءت حكاية على لسان فرعون؛ سوف نكتشف في نسيج السرد بعضًا من أسرار الحبكة، التي قد تعكس لنا حجم الأزمة النفسية العميقة التي كان يمر بها، ما يجعلنا نتفهم سبب هجومه العنيف على موسى، وعلى موسى وحده، دون هارون.. إذ استعمل فرعون ضمائر الجمع لصالحه بطريقة تبدو مبررة، لكنها أيضًا قد تبدو مفرطة نوعًا ما، مقابل إمعانه في إفراد موسى، وإشعاره بالعزلة التي باتت تحيط به في التحدي، ولنأخذ مثالًا مثيرًا على ذلك، حينما قال له: ﴿فاجعل بيننا وبينك موعدًا﴾، وكان بإمكان فرعون أن يتخفف قليلًا من تلك النبرة التعبيرية الحادة، بقوله: (فاجعل بيننا موعدًا)، دون حاجة إلى قوله: (وبينك)؛ لأن (بيننا) في الأداء قد تكفي، لكنها لا تناسب التعبير عن طغيان فرعون أولًا، وشعوره بالهزيمة في قاعة القصر بعدما رأى الآيات، ولا تكفي للتفريق ما بين الفريقين المتصارعين ثانيًا، فضلًا عن إشعار موسى بأنه سوف يكون في هذا وحده، وبأنه محاصر، (وكأن هارون لا وجود له)، وبأن الملأ الذين حاول موسى أن يستميلهم منذ قليل بأسلوبه الحكيم، ودعوته العظيمة إلى جانبه، سيكونون هم معه "جميعًا"في هذا التحدي الخطير ضده، وهذا أوقع ما يكون في تخويف موسى، وترهيبه!

ثم ليتكرر هذا النسق العارم مرة أخرى، وبالحدة التعبيرية ذاتها، حين أعطى فرعون لموسى حرية أن يحدد بنفسه موعدًا، وهذا أمر في غاية الغرابة، أن يعطي فرعون "عنصر الزمن" لخصمه، مع تأكيده على أنه سيكون موعدًا فاصلًا، بقوله: ﴿فاجعل بيننا وبينك موعدًا لا نخلفه نحن ولا أنت)، وقد كان بإمكان فرعون أن يكتفي بقوله: ﴿فاجعل بيننا موعدًا لا نخلفه﴾، من دون عبارة: ﴿نحن ولا أنت﴾، وقد سمحت الطبيعة الصوتية، في عبارتي: (بيننا وبينك)، و﴿لا نخلفه نحن ولا أنت﴾، بأن نشعر بما كان يشعر به فرعون، وأن نتمثله وهو يكز بوجه جلعًا لموسى، (التجليع: هو قلب الشفة العليا أثناء الحديث من شدة الكبر)، وعمومًا فقد تعمَّد فرعون أن "يضيق الخناق" على موسى، بإظهار ضمير الجمع، والإكثار منه، مقابل إمعانه في إفراد موسى؛ لإرهابه، وإشعاره بأنه صار ضئيلًا، وصار معزولًا وحده.

أما عنصر المكان، فقد جعل فرعون تحديده من نصيبه هو، وكان الأولى به أن يخص نفسه بكلا العنصرين، وكأنه يقول لموسى، أما الزمان فمتروك لك، لتقرر بنفسك متى ترغب في أن تأتي وتتحدى سحرتي، وأما المكان فسوف نختاره نحن لمحاصرتك، (إن أنت جئت)، وسيكون بالتأكيد (مكانًا سوى)، أي لا مهرب لك منه، (إن أنت جنيت على نفسك بخوض هذا التحدي ضدنا).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ